فصل: مطلب معنى الهداية وما قيل فيها وشهادة الأعضاء وكلام ذويها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب معنى الهداية وما قيل فيها وشهادة الأعضاء وكلام ذويها:

واعلم أن معنى الهداية لدى أهل السنة والجماعة هو الدلالة فقط وصلت إلى المطلوب أو لم تصل، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} الآية 53 من سورة الشورى الآنية، لأن اللّه تعالى أنزل الآيات وأرسل الرسل وأعطاهم العقل وأمرهم بالهداية ومكنهم منها وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذرا لحصول بغيتهم بحصول موجبها ومقتضيها، ولا وجه لقول بعضهم اشتراط التوصل إلى المطلوب أخذا من قوله هديته فاهتدى بمعنى حصول البغية كما تقول ردعته فارتدع لما تقدم، كما لا وجه لاستدلالهم في هذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الاستقلال بناء على قولهم في قوله تعالى: {فَهَدَيْناهُمْ} بكونه دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة، وقوله: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى} يدل على أنهم أنفسهم آثروه، لأن الإيمان لا يكون إلا بتوفيق اللّه تعالى، ولأن لفظ {فَاسْتَحَبُّوا} يشعر بأن قدرة اللّه تعالى هي المؤثرة، وأن لقدرة العبد مدخلا ما، وهو الجزء الاختياري للإنسان الذي يجعل له رغبة ورضا وشوقا ما، في فعل ما يقدم عليه، على أن المحبة مطلقا ليست اختيارية محضة بالاتفاق وإيثار العمى وهو الاستحباب المأخوذ من معنى استحبوا، وهو لا يكون إلا من الأفعال الاختيارية، ومعنى كون المحبة ليست اختيارية انها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه، فهي نفسها غير اختيارية باعتبار مقدماتها.
اختيارية بحسب ما تؤول إليه لأنها لا تكون إلا عن رغبة وميل، ولذلك كلّفنا بمحبة اللّه تعالى ومحبة رسله صلوات اللّه عليهم وسلامه.
قال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها} الآية 189 من الأعراف في ج 1 فقد جعل علّة ميلها كونها منه بما يدل على أن المحبة ميل روحاني طبيعي، وإليه الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه وسلم: الأرواح جنود بجندة ما تعارف منها أتلف.
وقد تكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال ولها آثار يطلق عليها محبة كالطاعة والانقياد والتعظيم، وهذه هي التي يكلف الإنسان بها، لأنها اختيارية، فتدبر وتفكر وافهم واعرف وفتح عينيك تهدى وترشد.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ} المتوغلون في إنكاره وجحود آياته وتكذيب أنبيائه {إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} 19 يستوقف أولهم ليلحق آخرهم.
فيحبسون حتى إذا تكاملوا سيقوا إلى أرض الموقف {حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} فروجهم وأيديهم وأرجلهم وجميع جوارحهم لأنها هي التي للامس الحرام بدليل تخصيصها بعد، وإنما كنى اللّه تعالى عنها بالجلود تحاشيا عن ذكرها وتعليما لعباده الأدب بالمكالمات، وكثير أمثاله في القرآن وشهادتهم {بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} 20 بالدنيا فينطق كل بما وقع منه إذ تكت الألسنة عن النطق: فعلت الجوارح.
{وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا} بما كتمناه نحن لئلا تعذبوا {قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شيء} ولا نقدر على المخالفة والكتمان {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} من لا شيء، فهو قادر على انطاقنا {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 21 بعد الحساب إذ يضعكم موضع المجازات المترتبة عليكم، كما أرجعكم إليه بعد الموت {وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} أيها العصاة عند ارتكابكم الفواحش بالحيطان والحجب خيفة من اللّه ليسترها عليكم الآن، وإنما كنتم تستترون خشية أن يطلع عليكم الناس وما كنتم تظنون {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} بأفعالكم القبيحة {وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} 22 في دنياكم من الخير والشر، روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: اجتمع قريشيان وثقفي، أو ثقفيان وقريشي عند البيت كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فقال أحدهما للآخر أترون أن اللّه يسمع ما نقول؟ قال الآخر يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا، وفي رواية قال: فذكرت ذلك للنبي صلّى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه هذه الآية.
على أن الآية عامة ولا قول في الحديث من حيث الصحة، لأنه جاء برواية الشيخين وناهيك بهما ثقة، وإنما في كونه سببا للنزول وعلى صحة ذلك فإنه لا يخصص حكم الآية، ومثل هذا القول يقال في الحديث المذكور في الآية 8 المارة آنفا، وقدمنا في الآية 65 من سورة يس في ج 1 ما يتعلق في شهادة الأعضاء من الأحاديث ما به كفاية فراجعها، فإذا كان اللّه تعالى وكل بالإنسان حفظة يحصون عليه أعماله وأنفاسه، وفضلا عن هذا فإنه يستنطق جوارحه عما يقع منها، فينبغي للمؤمن أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة ربه عز وجل، فإن عليه رقباء منه، قال أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا ** تقل خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن اللّه يغفل ساعة ** ولا أن ما يخفى عليه يغيب

ويكفيك قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} الآية 42 من سورة إبراهيم الآتية، ولا يستغرب نطق الأعضاء بما وقع منها بقدرة اللّه تعالى، بعد أن نرى الأسطوانة تتكلم بما وقع عليها، والشريط السينمائي ينطق بما تكلم عليه على اختلافه، وهما من صنع البشر، فما بالك بما هو من صنع اللّه خالق البشر، إذا لا يتطرق أحدكم بالظن في ذلك فيهلك، وقد قال تعالى: {وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ} أوقعكم في الردى، أي الهلاك، وفي هذه الإشارة الدالة على البعد إيذان بغاية بعد منزلة ظنهم في الشر والسوء {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} 23 بسبب ظنكم ذلك، لأن اللّه تعالى أنعم عليكم في هذه الجوارح لتستعملوها فيما خلقت لها فتنالوا سعادة الدارين، فإذا حرفتموها لغير ما خلقت لها كانت سببا لشقائكم فيها، لأن استعمالكم إياها في طرق الخير يؤدي إلى إدراك ما تهتدون به إليه من اليقين ومعرفة رب العالمين الموصلة للسعادة الأبدية، وصرفها لغير ذلك يؤدي إلى كفران النعمة الموصل إلى الشقاء الأبدي، قال بعد أن حكم عليهم بشهادة أنفسهم وأعضائهم {فَإِنْ يَصْبِرُوا} على ما صاروا إليه من العذاب أو لا يصبروا {فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} لأن صبرهم ليس فيه مظنة الفرج حتى يأملوا الانتفاع به فصبرهم وفجرهم بحقهم سواء، والآية هذه على حد قوله تعالى: {أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ} الآية 20 من سورة إبراهيم الآتية، وقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ} الآية 16 من سورة الطور الآتية {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} يطلبوا العتبى والرضاء {فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أيضا، إذ لا سبيل للرضاء حتى يكونوا من المسترضين ولا محل له {وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ} هيأنا لهم أخدانا من نظرائهم الشياطين {فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} من زخارف الدنيا المحيطة بهم {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الصادر ممّا بالعذاب {فِي} جملته {أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ} دنياهم وآخرتهم كغيرهم من الأمم الظالمة {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة {لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ} الذي يتلوه عليكم محمد {وَالْغَوْا فِيهِ} قولوا عند قراءته قولا لا رقوع له كي يتشوش القارئ ويلتبس على السامع {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 26 في لغوكم على تلاوة محمد، فلا تتركون مجالا للسامع أن يفهمه كما هو، وذلك أن المشركين علموا عذوبة ألفاظ القرآن وكمال معانيه وجزالة جمله، وعرفوا أن من أحبط به علما وعقله مال إليه، فخافوا على أنفسهم وغيرهم من الانخراط في الدين المنزل عليه وقبول ما جاءهم به، فلذلك صار بعضهم يوحي إلى بعض بأن كل من يسمع محمدا يقرأ فليكثر من اللغو ورفع الصوت ليختلط عليه الأمر وعلى السامع أيضا، فلا يعقله تماما خشية تسرب قوله إلى الناس فيؤمنوا به، فأنزل اللّه هذه الآية ينعى عليهم بها سوء صنيعهم، راجع الآية 115 من الأعراف في ج 1، ثم هددهم بقوله: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أظهر مكان الإضمار إشعارا بعظم عقابهم المشار بكونه {عَذابًا شَدِيدًا} على فعلهم هذا {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} 27 تهديدا مؤكدا بالقسم، أي وعزتي وجلالي لأعاقبتهم على سيئاتهم هذه بأسوأ منها ولا نكافئنهم على أعمالهم الحسنة من صلة رحم وإقراء ضيف وإغاثة ملهوف وغيرها، لأنهم كانوا يفعلونها لنشر الصيت رياء وسمعة وتفاخرا، ولا نثيبنهم على الأحسن من أعمالهم مما هي خالية من تلك الشوائب، لأنا كافيناهم عليها في الدنيا من صحة وسعة رزق وجاه وغيرها، بل نجازيهم ونعاقبهم على أفعالهم السيئة بأعظم العقوبات وأسوئها، وعلى الأسوإ أكثر من السيء {ذلِكَ} التشديد عليهم بالجزاء {جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ} المحاربين له في الدنيا هو {النَّارُ} التي لا يقاس عذابها بعذاب {لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ} الإقامة الدائمة {جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} 28 ويكذبون رسلنا الذين جاءوهم بها ويسخرون بهم {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بعد قذفهم بالنار وعدم النظر إلى طلباتهم الواهية {رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا} في الدنيا عن الدين القويم وأوقعانا في هذا العذاب الأليم {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا} في هذه النار انتقاما منهم {لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} 29 فيها فيتالا عذابا أكبر من عذابنا، لأنهما هما اللذان أوقعانا فيه، فلا يلتفت إلى قولهم لأن أولئك لهم مكان خاص في النار أيضا مع أمثالهم.

.مطلب ما للمؤمنين المستقيمين عند اللّه ومراتب الدعوة إلى اللّه ودفع الشر بالحسنة:

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} بأفعالهم وأقوالهم على إيمانهم {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} بالرحمة من اللّه عند الموت وفي القبر وزمن البعث تؤنسهم وتقول لهم {أَلَّا تَخافُوا} من هذه الأهوال التي ترونها في المواقع الثلاثة {وَلا تَحْزَنُوا} على ما فاتكم من الدنيا فإن اللّه تعالى أبدلكم خيرا منها وآمنكم من كل هم وغم وعناء، والحزن غم يلحق الإنسان من توقع مكروه أو خوف فوات محبوب أو حصول ضار، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} 30 بها على لسان رسلكم في الدنيا والآن {نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ} وأنصاركم ومتولوا أمركم كما كنا لكم {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ} اليوم {فِي الْآخِرَةِ} كذلك لا نقارقكم أبدا حتى تدخلوا مقركم في الجنة {وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} من أكل وشرب ولبس وظلال وترف وصحبة ونساء وغيرها {وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} 31 تطلبون وتتمنون من كل ما يخطر ببالكم وهذا أعم من الأول {نُزُلًا} هذا الذي ذكر كله بمقام ما يقدم للضيف أول نزوله من شراب وقهوة، فما بالك بما يقدم له بعد، وناهيك برب المنزل {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} 32 بالنازلين كثير المغفرة لما وقع منهم كيف وهو أكرم الأكرمين ممطر الألطاف والكرامة على عصاته، فكيف بأضيافه ومطيعيه {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ} أيا كان من عباده المخلصين وأمر بطاعته ونهى عن معصيته، وهذا عام في كل مؤمن يدعو الناس عامة طائعهم وعاصيهم برّهم وفاجرهم إلى عبادة اللّه ويدخل فيه الأنبياء بالدرجة الأولى ثم الأمثل فالأمثل، ولا وجه لتخصيصها بالرسل عليهم السلام كما قاله بعض المفسرين، لأن إجراءها على عمومها أوفق للفظ وأنسب بالمعنى وأحسن بالمقصد {وَعَمِلَ صالِحًا} بإخلاص وحسن نية {وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 33 المذعنين المنقادين للّه تعالى قلبا وقالبا.
واعلم أن للدعوة إلى اللّه مراتب: الأولى دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالآيات والمعجزات والحجج والبراهين المقرونة بالتحدي وبالسيف إذا لم ينجع ذلك.
الثانية دعوة العلماء بالحجج والبراهين وطرق الإرشاد والنصح وضرب الأمثال فقط، ولا شك أن العلماء أقسام: علماء باللّه، وعلماء بصفاته، وعلماء بأحكامه، وقد يجمع الكل بواحد إذا كان من العارفين:
وليس على اللّه بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد

وكل من هؤلاء مكلف بإرشاد الناس إلى طرق الهداية، أوتوا من قوة في النطق وفي الدلائل الشرعية.
الثالثة دعوة المجاهدين، وهذه لا تكون إلا بالسيف لأنهم مأمورون من قبل ولي الأمر يقتال الكفار حتى يؤمنوا، وفقال الخارجين عن الطريقة الإسلامية حتى يذعنوا، فإذا آمن الأولون وأذعن الآخرون وجب عليهم الكف عن قتالهم، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
الرابعة دعوة المؤذنين إلى الصلاة، فينبغي لمن سمع الصوت أن يجيب الداعي، ولهذا فما روي عن عائشة أن هذه الآية نزلت في المؤمنين خاصة، مع أنها عامة لا يخصصها رواية عائشة رضي اللّه عنها على فرض صحة نزولها فيما قالت، لأنها مطلقة في كل من يدعو إلى اللّه ويحث الناس على سلوك طريقة السوي لا يقيدها قيد أبدا.
هذا، وعلي من يتصدى للإرشاد أن يكون بمقتضى الآية 135 من سورة النحل الآتية {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} في الآثار والأعمال والأحكام، بل بينهما برن شاسع، فيا أيها الإنسان الكامل {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالإحسان إلى من أساء إليك والصبر على أذاه والتأني عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند القدرة، فهذه هي الحالة التي وصفها اللّه بالأحسن، وشتان بين من تحلى بالخصال الممدوحة، ومن تقمص بالخلال المذمومة، والآية عامة في كل فعل حسن وسيئ قليلا كان أو كثيرا، خطيرا كان أو حقيرا، فعلى العاقل أن يحسن لمن أساء إليه، ويصل من قطعه، ويعرض عمن آذاه، ويعطي من حرمه، ويمدح من يذمه، ويدعو لمن شتمه، ويعفو عمن تعدى عليه أو على ماله أو ولده أو أهله، اتباعا لكلام اللّه وأحاديث رسوله، ولا يتأنى في ذلك، ففي التأني تفوت الفرص، وهو محمود في غير هذا وأمثاله مثل تزويج البكر وإقراء الضيف ودفن الميت وغيره، كان سيدنا عيسى عليه السلام إذا مرّ بأناس يشتمونه يدعو لهم فقال له أصحابه في ذلك، فقال كل ينفق مما عنده. وعليه المثل المشهور: وكل إناء بالذي فيه ينضح.
وكان من تعاليمه عليه السلام: من ضربك على خدّك الأيمن فأعطه الأيسر، ومن أخذ ثوبك فأعطه رداءك، وكان يأمر بمحبة الأعداء والعفو عن الاعتداء، وكان أزهد الناس في الدنيا عاش ثلاثا وثلاثين سنة في الأرض، ورفع إلى السماء ولم يختص بمحل يأوي إليه حتى آواه اللّه برفعه إليه {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 34 مخلص صادق في محبتك ولوع في مودتك، لأن اللّه تعالى يقلب عداوته صداقة محضة بأن يجعله أدنى لك من قريبك، قال:
إن العداوة تستحيل مودة ** بتدارك الهفوات بالحسنات

{وَما يُلَقَّاها} أي تلك الخصال الحميدة {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} على أنفسهم وتحملوا المكاره وتجرعوا الشدائد وكظموا الغيظ وتركوا الانتقام، فصارت طبيعتهم الصبر وشأنهم العفو وديدنهم التحمل {وَما يُلَقَّاها} الأمور المذكورة آنفا ويقوم بها {إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 35 أي موقق للخير ميسّر للهدى مسوق المرشد ذو نصيب كبير من كمال النفس، وحظ عظيم من طهارة القلب، وحصة جليلة من مكارم الأخلاق.

.مطلب في النزغ وسجود التلاوة وعهد اللّه في حفظ القرآن:

قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} أيها الإنسان الكامل {مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ} فتحس بما ينخسه في قلبك ويوسوس فيه بصدرك من ترغيبك لفعل ما لا ينبغي فعله وصرفك عن القيام بتلك الخصال النفيسة وحثك للانتقام، فاحذر أن تطيعه، وإن حاك في نفسك شيء من اجراء المقابلة {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} منه والجأ إليه ليحفظك من خدعه وغشه {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لمن يستغيث به فيجيبه وهو {الْعَلِيمُ} 36 بصدق ركونك إليه فيحفظك من شر نزغاته، ويحول دون التفاتك إليه، وقدمنا ما يتعلق بالنزغ في الآية 100 من سورة يوسف وفي الآية 12 من سورة يونس المارتين، وفيهما ما يرشدك لمراجعته من الآيات الباحثة عن هذا.
اعلم أن مناسبة هذه الآية لما قبلها هو دفع ما يتوهم إن فعل ذلك بمقابل إساءة الغير قد يكون ذلا أو خوفا أو عازا من الناس، وإن حصول هذه الوساوس من الشيطان الذي لا يريد إلا الشر للإنسان، كيف وقد حذّرنا اللّه منه بقوله عزّ قوله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} الآية 60 من سورة النساء في ج 3، بأن تجنحوا بكليتكم إلى المساوى والمكاره وتعرضوا عن العفو ومكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فعلى العاقل أن ينتبه لذلك، لأن تلك الأعمال الحسنة ما هي إلا من علو النفس وزكاة القلب وكمال الإيمان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، قال تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ} الدالة على توحيده وعظيم قدرته وبالغ حكمته {اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} المسخّرات بأمره لمنافع الخلق وما في الكون كله يخضعون لعظمته ويسجدون كل بحسبه انقيادا لجلاله، فإذا علمتم هذه تفعل هذا وهي دونكم في العقل والفضل، فيا أيها العقلاء {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} لأنها ليست بأهل لذلك ولأنها من جملة مخلوقاته الكائنين في قبضته {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} لمنافعكم فهو وحده المستحق للسجود {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 37 تخصونه بعبادتكم وتطلبون ثوابها {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} عن حصر السجود للّه وعمدوا إلى غيره، فاترك يا أكمل الرسل هؤلاء الذين اختاروا المخلوقين على الخالق {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} من الملائكة الكرام يسجدون له كما يسجد المؤمنون أمثالك و{يُسَبِّحُونَ} له {بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} 38 من عبادته ويملون منها ولا يتكاسلون عنها وهنا موضع السجود على الوجه الأكمل لا عند قوله: {تَعْبُدُونَ} كما قاله بعض القراء، بل عند تمام هذه الآية الأخيرة لأن السجود يكون عند تمام المعنى المراد به فتكون السجدة آية واحدة فقط، كما في الإنشقاق والنجم والسجدة والفرقان والحج ومريم والعلق والأعراف والرعد، وتكون آيتين كهذه، وسجدة ص، وتكون ثلاث آيات كالنمل والنحل والإسراء، وعلى هذا لا يكون السجود إلا عند ختام الآية الأولى بل عند تمام الثانية في فصّلت هذه وص، وعند تمام الثالثة في النمل والنحل والإسراء، وهذه السجدة من عزائم السجود، وقدمنا ما يتعلق فيها في الآية 45 من سورة ص في ج 1، وفيها ما يرشدك لما تتمناه.
قال تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً} متكامنة من شدة التبيس مغبّرة وعليها آثار الذل بسبب ذواء نبلتها {فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ} تمايل نباتها وتحرك بمرور الرياح عليه {وَرَبَتْ} فاشت وانتفخت ولانت، ونظير هذه الآية الآية من سورة الحج في ج 3 مع اختلاف في بعض الكلمات، فقل يا أكرم الرسل لهؤلاء المنكرين إعادة الأجسام من قومك {إِنَّ الَّذِي أَحْياها} بعد يبسها المشابه للموت في الإنسان {لَمُحْيِ الْمَوْتى} من البشر وغيرهم مرة ثانية كما خلقهم أول مرة وهو أهون عليه {إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 39 لا يعجزه شيء وليس عليه شيء بأهون من غيره.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا} وينحرفون عن تأويلها فيميلون عن الحق المبشرة به إلى الباطل الذي يريدونه على حد قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} الآية 45 من المائدة في ج 3، وهي مكررة في القرآن لفظا ومعنى.
واعلم يا سيد الرسل أن هؤلاء {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا} لأنا نراهم ونرى ما يعملون، وفي هذه الجملة تهديد كبير بعظيم مجازاتهم {أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ} هذا تمثيل للكافر على الإطلاق {خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا} من العذاب {يَوْمَ الْقِيامَةِ} وهذا تمثيل للمؤمن مطلقا أيضا، وما قيل إن هذه الآية نزلت في أبي جهل وحضرة الرسول، أو في أبي بكر أو عمار بن ياسر أو عمر أو عثمان أو حمزة على اختلاف الأقوال في ذلك، وفرض صحة هذا السبب لا يقيدها عن عمومها ولا يخصصها عن إطلاقها، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
ثم ذكر تعالى ما هو غاية في التخويف والتهديد والوعيد لأولئك الملحدين بقوله عز قوله: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ} أن تعملوه أيها الكفرة {إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 40 والبصير بالشيء يعلمه ويعلم ما يستحقه فاعله من العقوبة، وهذه الآية غاية في التشديد وعظم التهديد للملحدين خاصة، ويدخل فيها من على شاكلتهم من الكفرة.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ} الجملة من أن واسمها وخبرها واقعة مبتدأ وجملة {أُولئِكَ يُنادَوْنَ} إلخ خبرها، وما بينهما اعتراض، والمراد بالذكر هنا هو القرآن {وَإِنَّهُ} ذلك الذكر {لَكِتابٌ عَزِيزٌ} عديم النظير محمي بحماية اللّه كريم عليه محفوظ؟ التبديل والتغيير والتحريف {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ} الذي يريده الملحدون ليوقعوا فيه تناقضا بزعمهم {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} قبله وأمامه {وَلا مِنْ خَلْفِهِ} ورائه ودبره، لا يتطرق إليه الباطل بوجه من الوجوه لأنه {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 41 في أقواله وأفعاله محمود على ما أسداه من النعم المتتابعة إلى خلقه، ومن أجلّها هذا القرآن المصون، وتقدم في الآية 9 من سورة الحجر ما يتعلق في هذا البحث، المراجعة.
ثم إنه جل شأنه عزى حبيبه محمد على ما يلاقيه من قومه بقوله جل قوله: {ما يُقالُ لَكَ} يا حبيبي مما تراه من الأذى والجفا في القول والفعل {إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} فلك أسوة بهم فلا تضجر ولا تحزن {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} لمن آمن بك منهم ومن غيرهم عما سبق من ذنبه مهما كان {وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} 42 لمن أصر على التكذيب {وَلَوْ جَعَلْناهُ} ذلك الكتاب المعبر عنه بالذكر {قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} يتلى بغير لغة قومك {لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ} بالعربية لفهمناه وآمنا به فكيف تريد أن نؤمن بما لا نفهمه {ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} كيف يكون ذلك أتهدى أمة عربية بلسان أعجمي لا تعيه كلا، لا يكون ذلك، أي لتذرعوا بالإنكار في هذه الحجة ولصح قولهم {قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ} الآية 5 المارة، لأنهم لا يحيطون بمعناه أما وأنه أنزل بلغتهم فلم يبق لهم ما يعتذرون به، فلا يصح قولهم ذلك بأنه أعجمي لا نفهمه.
وفي هذه الآية إشارة على أنه لو نزل بلسان العجم لكان قرآنا فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه اللّه في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية، وتقدم أن بينا عدم جواز ترجمة القرآن باللغات الأجنبية في الآية 3 المارة، لأنها لا تحتوي على جميع الحروف العربية، فليس بوسع أعظم عالم باللغة المترجم إليها وباللغة العربية أن يعبر عن كل كلمة منه بلفظها ومعناها من غير أدنى تغيير فيها بل تعرض المحال، لأن إمكان وجود لغة أجنبية تحتوي على الحروف العربية كلها محال، وإن ما اطلعتما عليه من اللغات التركية والإفرنسية والعبرية والسريانية والكردية والهندية والإنجليزية والألمانية لا تحتوي عليها، وغيرها كذلك، وإمكان التعبير عن بعض كلماته لا يكفي، لأنه لا يجوز أن يترك منه حرف واحد.
أما ما جاء عن أبي حنيفة فهي عبارة عن حفظ آية طويلة أو ثلاث آيات قصار بمقدار ما تصح به الصلاة للعاجز عن تعليمها بالعربية خشية من ترك الصلاة التي لا تصح بغير القراءة، فذلك ممكن، إذ يوجد في القرآن ما هو ممكن الترجمة بذلك القدر من آيات الدعاء والرجاء، أما كله أو نصفه أو عشره أو معشاره فلا يمكن البتة، لأنه خارج عن طوق البشر، وقدمنا في الآية 195 من سورة الشعراء في ج 1، ما يتعلق بهذا البحث بصورة موضحة فراجعها.